لم أكن أتوقع أن الطبيب الجراح العالمى الذى يحمل هذا القلب الرقيق، لديه هذا الحس الروائى البديع. أول مرة رأيته فيها كنتُ فى أزمة كبيرة، مثلى مثل ملايين البشر، فكل فرد على هذه الأرض لديه صندوقه الأسود الذى يحمل فيه ما يؤلمه. لم يكن لدى الوقت لأن أذهب لطبيب؛ فقد كنت فى حالة حرب شرسة، كل دقيقة فيها تحمل إماغرقا أو نجاة.
لا أعرف كيف شعر الدكتور جمال سعيد بما أحمله من قلق مكتوم، وقتها قرر الاتصال بى وكانت المرة الأولى التى يحادثنى فيها، حيث كان معجبا بقلمى وطلب صداقتى حديثاعلى الفيسبوك. فوجئت بسؤاله المباشر:مم أعاني؟! ترددت أن أفصح، ثم قلت فى نفسي: كأن الله أرسله، فحكيت له ما أمر به. طلب مجموعة من التحاليل والأشعة، بادرته بأنه ليس لدى وقت لكى أذهب لأى طبيب، ولا أملك رفاهية حتى عمل التحاليل والأشعة، فالوقت سيف مسلط على رقبتى، وشرحت له الوضع باقتضاب، فما كان منه إلا أن أظهر تواضعا لم أتوقعه من عالم فى قامته، مؤكدا ضرورة عمل التحاليل والأشعة، مشيرا إلى أنه سيأتى خصيصا للمعمل للاطمئنان بنفسه لاختصار الوقت، موضحا أن الأمر لن يستغرق سوى دقائق معدودات؛ ثم مدحنى بكلمة أبكتنى عبر الهاتف، أشعرتنى أن الشعر والأدب والكتابة مازالت تحمل القيمة العظمى فى زمن اختلط فيه الذكاء الاصطناعى بالإنسان وجمَّد مشاعره.
وبالفعل وفًّى بما وعد، وجاء وكتب الدواء، ولولاه وقتها ما تجاوزت ما كنت فيه. مرت الأيام وانتصرت على الحرب الدائرة ضدي. فكان أول المهنئين؛ حيث كرمنى فى صالونه الأدبى، صالون الجراح.
هذا الصالون تتم فيه مناقشة القضايا المهمة على الساحة العربية والعالمية؛ يستضيف فيه شخصيات مرموقة سياسية وأدبية وفنية كنوع من الوعى الذى حاول أن يدعم به الحركة الثقافية؛ بعد أزمة الثورات فى مصر التى وقتها أكلت الأخضر واليابس؛ وجمَّدتها وأصابتها بالشلل إلى أن أعاد لها نبضها بانتظام الحياة السياسية، وسارت السفينة بقيادة ربانها الرئيس عبدالفتاح السيسى، وقتها وقبل هذا الانتظام كان كل وطنى شريف ومخلص يفعل ما فى وسعه. ووقف د. جمال من خلال منبره «صالونه الثقافي» ينشر الوعى والفكر ويدفع بالحركة الثقافية مرة أخرى. ثم كانت الدعوة الثانية لى متحدثة رسمية فى أحد اللقاءات، قبل اللقاء حدثنى د.جمال عن فكرة كتاب يشغله ويؤرقه وتردد طويلا فى نشره، كان الكتاب عبارة عن تجاربه مع مرضاه، ومرض السرطان الذى تخصص فيه.
ولما شرح لى الفكرة طرت بها ولم أتوقعها ولم أكن أدرك أنه يمتلك قلما ذهبيا كمشرطه؛ يشرٍّح به المجتمع ويستأصل منه سرطانه ويهنأ ويحتفل بشفائه. فى أحد اللقاءات جلس مبتسما وهو يتحدث عن مرض من أشرس الأمراض قائلا لي: مرض السرطان صديقي؛ حينما يصيب مرضاى نجلس ونتفاوض ويحدث بيننا تنازلات حتى نصل لحل يرضى الطرفين، هذا هو الطبيب العبقرى الإنسان ا.د جمال سعيد وللحديث بقية عن كتابه: «الألم والأمل مشرط الجراح وضفائر الدم».