لا يجوز الخلطُ بين الشكلِ (كَبْوةُ لياقةٍ في تحديدِ موعدِ جلسةِ الانتخابِ في 13 تشرين الأوّل بالذات) وبين الجوهرِ (انتخابُ رئيسٍ جديدٍ للجُمهوريّةٍ مهما كان موعدُ الجلسة). وإذا كان القصدُ من تحديدِ 13 تشرين هو خلقُ إشكاليّةٍ تُعطِّلُ انعقادَ الجلسة، فأبسطُ قواعدِ الذكاءِ أنْ تُطوَّقَ هذه الإشكاليّةُ المتَعمَّدةُ بالحضورِ وبانتخابِ رئيسٍ أو بتحويلِها شرارةَ ثورةٍ وطنيّةٍ إذا لم يَتمّ انتخابُ رئيس. سنةَ 1798، حين رَفضَ الملكُ لويس السادس عشر إجراءَ الإصلاحاتِ المطلوبةِ، انتفض “ميرابو” وتوجّه على رأسِ “عامّةِ الشعب” (Tiers Etat) وقِوى أخرى إلى قلعةِ الـــ”باستيل” حيث كان السلاحُ مُخزَّنًا ومكدَّسًا ووَضعوا أيادِيهم عليه، وانتقلت فرنسا من إجراءِ إصلاحاتٍ إلى انطلاقِ ثورة.
مُعضِلتُنا في لبنان أنّنا في إصلاحاتٍ خطأٍ، وفي ثورةٍ خطأٍ، وفي دولةٍ خطأ. وإذا حلَّ علينا يومٌ صَحٌ أنْجزنا فيه عملَا خطأ. لذلك، الرهانُ اليوم يتعدّى رمزيّةَ المواعيد إلى خطورةِ المرحلةِ حيث أنَّ لبنانَ يجتازُ أخطرَ أزْمةٍ وجوديّةٍ بغلافٍ سياسيٍّ ودستوريٍّ واقتصاديّ. كما يعيشُ العالمُ حربًا شبهَ عالميّةِ بين روسيا وأوكرانيا وأوروبا، ما يَفرِضُ على لبنانَ أن يَتحصّنَ بشرعيّةٍ طبيعيةٍ وكاملةٍ لمنعِ أيِّ طرفٍ داخليٍّ أو دولةٍ أجنبيّةٍ من وضعِ اليدِ عليه.
لا أفضلَ من 13 تشرين الأول 2022 موعدًا لإحياءِ ذكرى بَدءِ عهودِ الشغورِ الرئاسيّ ومُنطلقًا لإنهائها. وأساسًا، أيُ يومٍ في لبنان ليس فيه نكهةُ عارٍ؟ في مثلِ هذا اليوم، 13 تشرين الأول 1990، دخل لبنانُ مرحلةَ الاهتزازِ الدستوريِّ والوطنيّ. شَغُرت رئاسةُ الجمهوريّةِ، أُسقِطَت بالقوّةِ الحكومةُ الدستوريّةُ، واحتلَّ الجيشُ السوريُّ لبنان بأمرٍ من شرعيّةٍ لبنانيّةٍ/سوريّةٍ بغَطاءٍ أميركي. طريقُ الـــ”مارينز” إلى بغداد مَرَّ ببيروت. والمذهِلُ أنْ بعدَ 32 سنةً، لا يزال أركانُ 13 تشرين الأول 1990 هم أنفسُهم أركانَ جلسةِ 2022. ولا يزالُ عَرّابو إسقاطِ الشرعيّةِ الدستوريّةِ وإعادةِ الاحتلالِ السوريِّ فالإيرانيّ هم أنفسُهم أيضًا. تَغيّر العالمُ ولم يَتغيّر الناخبُ اللبنانيُّ ولا الطبقةُ السياسيّةُ في لبنان. إنّها حارسةُ انهيارِ الهيكل.
وحين يَرفع “ثورجيّون” متعدِّدو الجِنسيّاتِ العقائديّةِ شعارَ: “كلُّهُم يعني كلَّهَم” ــــ مَن فَوّضَهم هذا الحق؟ ــــ لا تَنحصِرُ شموليّةُ الشعارِ بالفسادِ المادّيِّ الذي تَتِمُّ معالجتُه بتطبيقِ القوانين، بل بالفسادِ السياسيِّ الذي لا يُعالَج إلا بتغييرِ البُنيةِ الوطنيّةِ والأخلاقيّة. وتأتي المواقفُ المتقلِّبةُ لبعضِ مُدَّعِي تمثيلِ “الثورة” في البرلمان ليَستحِقّوا بجدارةٍ الانضمامَ إلى طلائعِ “كلِّهِم يعني كلَّهَم”. فها إنّنا نراهُم يَتسابَقون يوميًّا على تسوياتٍ ومساوماتٍ أين منها تسوياتُ ومساوماتُ الطبقةِ السياسيّةِ التقليديّة؟ هل لدى “الثورجيّين وليُّ فقيهٍ أيضًا يقودُ خُطاهُم”؟
منذ بَدءِ التسعينيّات نَشطَت التسوياتُ، وانحدَر مفهومُ الشأنِ العامِّ، وتَربَّعَ الاحتلالُ على عرشِ لبنان، وصارت الدولةُ “لحامله”، والاستحقاقاتُ الدستوريّةُ والانتخابيّةُ رهنَ نضوجِ المساومات. تحليلُ ذِهنيّةِ الطبقةِ السياسيّةِ اللبنانيّةِ التي أفرزَتها مرحلةُ الحروبِ منذ السبعيناتِ إلى اليوم، يَكشف أنها تَنفِرُ من الانتظامِ عمومًا، ومن الانتظامِ الدستوريِّ بما يَعني من نظامٍ وقوانينَ واحترامِ الغير حتى لو كان من جِلدَتِه. نحن جيلُ الـــ”بلارُخصة”، وجيلُ “متى نَشاء”، وجيلُ “ما في دولة”. ونرى في كلِّ انتظامٍ قيدًا عوضَ أن نَجدَ فيه نظامًا يُؤنِسُ الحياةَ الخاصّةَ والعامّة.
حبّذا لو أنَّ السِحرَ يَنقلِبُ على السّاحرِ في جلسةِ اليوم ويَحصُلُ انقلابٌ ديمقراطيٌّ على هذا الواقعِ الـمُذِلّ، فيبادِر النوّابُّ إلى انتخابِ رئيسٍ خِلافًا لما هو مُنتظَرٌ، فيَستأهِلون سِمَةَ نوّابِ الأمّة. إن قيمةَ النوّاب أنْ يَتخطّوا ملابساتِ تحديدِ الجلسةِ في 13 تشرين ويَصدُموا أولئك المراهِنين على تثبيتِ الشغورِ الرئاسي، خصوصًا أنَّ ذاك التاريخَ مسؤوليّةٌ جماعيّةٌ يَصعُب على أيِّ فريقٍ أنْ يَغسِلَ يَديْه منه.
خلافًا لما يَظنُّ التيّارُ الوطنيّ الحرّ، إنَّ انعقادَ الجلسةِ في 13 تشرين من دونِ أنْ يَضمَنَ الداعون إليها القدرةَ على انتخابِ رئيسِ جُمهوريّةٍ جديدٍ ـــ وهو معروفُ الملامحِ منذ اليوم ـــ هي نكسةٌ سياسيّةٌ ومعنويّةٌ في سِجِلِّهم، كأنَّ الغايةَ من الدعوةِ هي تذكيرُ الرأيِ العامِّ اللبنانيِّ بإسقاطِ الجنرالِ ميشال عون في مثل هذا التاريخ. وإذا كان ذاك النهارُ “يومًا تاريخيًّا” لمعارضِي الجنرال عون، فهو يومُ عارٍ على الّذين خَطّطوا له وأمروا به ونَفّذوه واشتركوا فيه.
بالنسبةِ إليَّ، يومُ 13 تشرين الأول 1990، لم يكن ذكرى إسقاطِ ميشال عون حَصرًا. ويَعيبُ علينا أن نسمّيَ “يومًا تاريخيًّا” اليومَ الذي اقتحَم فيه الجيشُ السوريُّ قصرَ بعبدا وغزا وزارةَ الدفاعَ وأغارَ على قيادةِ الجيشِ والثُكُنات. لا، ليس يومًا تاريخيًّا أنْ يُسقِطَ النظامُ السوريُّ النظامَ اللبنانيَّ، وأن تُعطيَ الشرعيّةُ اللبنانيّةُ، باسمِ المخابراتِ السوريّةِ، أمرًا بالهجومِ على الجنرال عون عِوضَ التفاوضِ معه كما كان يَعتزم أن يَفعلَ الرئيسُ الشهيد رينه معوض. إلّا إذا اعتبرت الدولةُ والثنائيُّ الشيعيُّ 13 تشرين يومًا تاريخيًّا بإنهاءِ العَداءِ التاريخيِّ بين لبنانَ وإسرائيل من خلالِ اتّفاقِ الغاز…
ماذا يُفيد العونيّين أن يقاطعوا جلسةَ اليوم؟ أليس الأجدرُ بهم أن يُحوِّلوا هذه الجلسةَ بحضورِهم مِنبرًا لشرحِ ما حصل، كلِّ ما حَصَل في ذلك اليوم، ويُصلّوا على أرواحِ الشهداء، وأن يَنتفِضوا في وجهِ الّذين تَسبّبوا بسقوطِ الرئيسِ ميشال عون الذي رفضَ مغادرةَ القصرِ سلميًّا؟ أليس الأجدرُ أن يُوظّفَ العونيّون مع حلفائِهم جلسةَ اليوم صرخةً في وجهِ كلِّ من اعتدى على الشرعيّةِ والرئاسةِ والجيشِ والشعبِ؟
صرخةٌ؟ صرخةٌ بوَجْه مَن؟ فالمشكلةُ أنَّ حلفاءَ التيّارِ الوطنيِّ الحرِّ اليوم هم أنفسُهم الّذين شاركوا بالأمسِ في إعادةِ الجيشِ السوريِّ إلى تلك المناطقِ المحرّرةِ بدماءِ شهدائنا، واقتحامِ قصرِ بعبدا ووزارةِ الدفاع وقتلوا الضبّاطَ والجنودَ والمدنيّين وهجّروا جيلًا كاملًا وعبَثوا باستقلالِ لبنان وسيادتِه ونَشروا ثقافةَ الفسادِ والعمولات، وأسقطوا الجنرال عون واحتلوا لبنان مُدّةَ خمسَ عشرةَ سنةً جديدة. سنةَ 1990 كان 13 تشرين يومَ عارٍ بعودةِ الاحتلال، ولا يزالُ كذلك سنةَ 2022 ببقاءِ الاحتلالِ وتعدُّديّتِه والتحالفِ معه.